قصص وتقارير

بين مخيمات النزوح

بغداد/طيبة القيسي

لم تكن حياة  بشائر طالب (٣٩ )عاماً قبل نزوحها من مدينة الرمادي عام ٢٠١٤، تشبه  حياتها اليوم، فضنك العيش والحرمان تضاعفا بعد القاء قوات التحالف القبض على زوجها في حملة دهم تم تنفيذها في المنطقة سجن على اثرها لسبعة أعوام، لتبدأ طالب حياة اخرى ملؤها المرارة  من اجل تربية اطفالها  الثلاثة وتأمين متطلباتهم .

كانت طالب تمني نفسها بالعوض عند خروج الزوج من حبسه، لكن ذلك اول الأشياء التي لم تتحقق لها، فما ان أطلق سراحه من محنته، وإذا به يطالب بحقه في الزواج من ثانية لتنقلب حياتها الى جحيم، وتزداد المشاكل مع كل يوم يمضي بينهما، متناسيا زواجه بها بعمر الخامسة عشر عاما، فقررت طلب الطلاق قبل أيام من سيطرة ما يعرف بتنظيم داعش على المدينة، وتعود للعيش مع أهلها الذين تنازلوا عن حضانة اطفالها لأبيهم.

بدأ الندم يصاحبها على ترك اطفالها  ومن هنا بدأت  قصة جديدة من التحدي والنجاح الذي عزمت عليه بعد ان  وافقت على الزواج ثانية من ابن خالتها الذي يسكن في العاصمة بغداد، أملا في استعادة صغارها من ابيهم بعد ان ابدى زوجها  الثاني  استعداده لتربيتهم كأبنائه، خاصة سماع استغاثة ابنتها الكبرى شروق (16)عاماً التي تركها ابيها متوجهاً الى أربيل  مع زوجته و أهلها قاصدان الهجرة الى تركيا.

بدأت مخاوف شروق على نفسها وأخويها الصغيرين تزداد في كل لحظة ما دعا الأم “بشائر” بالعودة الى الرمادي لانتشال أطفالها رغم علمها  بالمخاطر التي تيمكن ان تواجهها خلال سفرها،فقد كان  كان تنظيم (داعش) يسيطر على المدينة وجميع الطرق المؤدية اليها .

وبعد ساعات طويلة ومتواصلة قضتها بشائر  برفقة زوجها سيراً على الاقدام  وصلت الى بيت أهلها والتقت بأبنائها، لكن زوجة شقيق طليقها أصرت على عدم إعطائها مستمسكات أبنائها، فاضطرت للاستعانة باهلها لاستخراج وثائق بدل ضائعة لهم لتأخذهم معها، لبيت استأجرته لمدة أسبوع، ريثما تتمكن من الخروج من المنطقة التي يسيطر عليها التنظيم المتشدد.

بين تبادل إطلاق النيران واصوات الرصاص في معارك شرسة بين داعش والأجهزة الأمنية، غامرت بشائر مع اطفالها لتصل الى ناحية الخالدية المحاذية لجزيرة بغداد السياحية، تنقلت تارة بسيارات الأجرة، وأخرى بزوارق نهرية حصدت حياة الكثيرين ممن لم يكتب لهم النجاة، حتى نجحت ام شروق بالوصول الى بر الأمان، لتحط الرحال في منطقة الرحمانية ببغداد، كان اول همومها ايجار منزل يأويهم، وتامين مصدر دخل لتغطية نفقات دراسة الأبناء، عملت منظفة في احد صالونات الحلاقة النسائية صباحا، ومحل لبيع الملابس النسائية بعد الظهر، ليحل عليها ضيف ثقيل زلزل لها الاحلام الوردية.

لم تشعر بشائر بآلام جسدها، الذي يسببها سرطان الغدة الدرقية الذي أصيبت به دون ان تعي ذلك، قررت تجاهله فالمسؤولية كبيرة عليها، عاندت جسدها حتى اشتد عليها الألم وتجبر على مراجعة الأطباء الذين نصحوا بان تخضع لعملية جراحية لاستئصال الورم، والخضوع الى الاشعاعات الكيمياوية، فنصحها الاقربون بالتقديم على منحة دائرة الهجرة والمهجرين، لتامين بعضا من احتياجاتها وأبنائها، فنجحت بالحصول على كرفان أواخر العام ٢٠١٥، ليكون جنتها مع صغارها.

تقدمت والدة شروق بطلب الى احدى المنظمات المحلية غير الحكومية بهدف الحصول على منحة لتأسيس عمل خاص بها لتعتمد على نفسها في مشوارها، وتمكنت من الحصول عليه، لتدخل بعد ذلك في مجال إدارة المخيمات لتسجل حضورها ونجاحها، الذي أسهمت فيه تلك المنظمات. بنتان وولد من الزوج الاول، ورضيع من الثاني، وبشائر مصرة على تحقيق ذاتها ورسم طريق نجاحها، لتكون قدوة لبكرها والكثير من النسوة اللاتي عرفنها في المخيمات التي تنقلت بينها في السكن.

وتروي بكر بشائر شروق (٢١ سنة)، “أتذكر سجن ابي حين كنت في السابعة من عمري، وكيف أحاطت بنا المشاكل، عمي وزوجته وابنائهم اللذين كانوا يجدّون لإغاظتنا، جدتي تفتعل المشاكل مع امي لدفعها للتخلي عنا، فقد كتب علينا ان نكون كل يوم في منزل أحدهم الا منزل ابوينا، حتى خرج والدي من السجن كنت حينها بعمر ١٣ سنة، لم أكن أدرك الكثير من الأشياء، لكن المشاكل بينه وبين امي ما تزال عالقة في مخيلتي حتى انفصلا وتزوج ابي من أخرى”.

وتوضح شروق، أن “سيطرة مسلحي داعش على مدينة الرمادي مركز محافظة الانبار، كانت سببا في زيادة حجم المشاكل لأتفه الأسباب علينا انا وأخوي، حتى سافر ابي الى كوردستان العراق، فيما انتقلت زوجته مع أهلها الى تركيا، فاتصلت بأمي وطلبت منها الحضور لإنقاذنا من المحيط الذي كان يرعبنا، وقد نجحنا في ذلك رغم المخاطر والتحديات التي واجهتنا حينها”. حرمت شروق نفسها من اكمال تعليمها، من أجل رعاية اختها وأخيها، ليستكمل إصابة الام بالسرطان اخر الحلقات الضيقة، تنقلت الأسرة بين مخيمات النزوح، حتى حصلت الفتاة على فرصة عمل في مستوصف حكومي لتساعد أمها في اعالة اخوتها. حكاية تحدي بشائر وابنتها شروق كل الظروف من اجل البقاء لن تكون اخر القصص، فكم من مثلها غابت عن الظهور خشية المجتمع وسطوة التقاليد.

*كتبت هذه القصة ضمن مشروع لمنظمة أنترنيوز لتدريب الصحفيين حول كتابة وإنتاج القصص الصحفية عن القضايا الحساسة المتعلقة بالنوع الاجتماعي (الجندر) في العراق

زر الذهاب إلى الأعلى