“الفصلية”زواج بالإكراه

بغداد- سجى فائق

عادت (ن.ق) (22 عاما) الى المنزل ذات يوم بعد انتهاء يومها الجامعي في كلية الطب، دون أن تعرف ان قصتها مع الطب انتهت إلى الأبد، فقد صارت بطلة قصة من نوع آخر، تقول (ن.ق) “عندما عدت في أحد الأيام من دوامي في كلية الطب، فوجئتُ بأسرتي في وضع متوتر للغاية، سألت والدتي: ما الذي حصل؟ فأجابتني إن ابن عمي قتل رجلا وابنة أخيه، وهو حاليا في السجن بسبب شجار على تمرير المياه للمزروعات، وقد ذهب والدك وإخوتك للتفاوض مع عشيرة المقتول، لم أُعِر الأمر اهتماما، في ذلك الوقت، وبعد أكثر من شهر انتهت المفاوضات بين العشيرتين”، وتستدرك (ن.ق) قائلة “لكني أدركتُ أن الخطر محدق بي لا محالة، عندما وجدتُ أعمامي يطرقون باب منزلنا، ودخلوا وهم محبطون، فاضطررتُ إلى
الاختباء وراء أحد الأبواب لأستمع إلى ما يقولون، وهنا سمعتُ عمي الكبير يقول مخاطبا والدي: (لقد دفعنا مبلغ الدية وانتهى الموضوع، ولكنهم يريدون إمرأة “فصلية” عوضا عن المقتولة أيضا، وقد وقع الاختيار على بنتك وإلا فنحن مضطرون إلى دفع دية بالملايين، وهو شيء فوق طاقاتنا، ويجب أن نرد عليهم خلال ثلاثة أيام”، وتضيف (ن.ق) “باءت محاولات والدي لثـَنْـيَهـُمْ عن ذلك بالفشل رغم استعداده لدفع نصف مبلغ الدية، إذ رفض أعمامي عرض والدي وأبلغوه بأنهم سيزوجونني بعد أسابيع ووعدوه بأنهم سيضمنون لي حياة مستقلة”، مشيرةً إلى ان “أعمامها هددوا والدها بإخراجه من العشيرة في حال عدم موافقته، وبالفعل أخذوني بثوب واحد بلا حقيبة ملابس ولا حتى مكياج أضعه على وجهي، وفقا للتقاليد، وتركت كلية الطب التي كُنت سأتخرج منها طبيبة، واليوم أنا أحمل طفلاً من شخص لم أحبه ولم أطقه يوما، فضلا عن معاملة أهله السيئة لي. وأسكن في غرفة في علـّية المنزل لا يجبر خاطري سوى ذكريات الجامعة مع زميلاتي، والتوسل إلى الله أن يأخذ روحي، وأخشى في لحظة أن أنهار وأقدم على عمل غبي”.
لم تكن (ن.ق) الفتاة الوحيدة التي زُوجت بهذه الطريقة، بل هنالك العديد من الفتيات اضطررن لذلك مُجبرات وتحملن عبئ خطأ لم يرتكبنه، واضطررن للموافقة والسكوت، فضلاً عن تحمّلهُن مشاعر الذل والإهانة، لخذلانهن من قبل الجميع، وبعضهن قد يُفضلن إنهاء حياتهن، على الاستمرار بحياة لا يشعرن فيها بالكرامة والاستقرار..
ام احمد وهي ضحية أُخرى لزواج التعويض الذي قضي على شبابها نتيجة خطأ ارتكبه شقيقها، تروي قصتها التي حدثت في إحدى قرى محافظة المثنى (جنوب العراق) تقول ام احمد “كنت في السابعة عشرة من عمري كل امنياتي ان اكمل دراستي واتباهى بشهادتي بين اقراني واقاربي في وقتها دخلت عشيرتي في نزاع مسلح مع عشيرة أخرى مجاورة، تورط أخي في قتل شخصين من أسرة واحدة هذا الأمر حول حياتنا إلى جحيم، قبل أن يتدخل بعض الوسطاء الذين اقترحوا تزويجي أنا وشقيقتي لأقارب المقتولين كفصلية ومن هنا تحولت حياتي لم افهم معنى المسؤولية ولم ادرك يوما اني اتزوج بهذه الطريقة التي لا يمكنني استيعابها ولا استيعاب المسؤوليه التي ملت على كاهلي فقد اصبحت مجرد خادمة في بيت اهل زوجي فكنت سابقا استيقظ بنشاط واهيئ نفسي للمدرسة واتخيل يومي كيف سيكون مع صديقاتي وواجباتي وخصوصا لو كانت من ضمن حصصي الدراسية حصة الاحياء فقد كنت اعشق هذا الدرس اما الان فقد انتهت هذه الاحلام وبدأت بالاستيقاظ من الفجر لأبدأ عملي الشاق لصنع الخبز اول الفجر الى اخر يومي وانهي يومي منهكة من العمل وكأني خادمة لاحول لي ولا قوة سوى ان انفذ الاوامر اما الرجل الذي تزوجته لم اشعر يوما أنه يعاملني كزوجة وانما كقاتله او شخص يريد ان ينتقم منه ومرت السنين وعلى الرغم من معاناتي معه إلا أنني أنجبت منه طفلين وكل ما ضاقت بي الحياة ارى اطفالي الذين لاذنب لهم بما حصل لي وبعد فتره توفي زوجي بحادث مروري. هنا قررت ان اخرج من هذا الجحيم بأية وسيلة فقررت ان آخذ أطفالي واعيش في مدينة اخرى فأخذت اطفالي وهربت وها أنا اعيش معهم في مكان رغم صغره ورغم المعيشة الصعبة التي أواجهها الا انني تحررت من العبودية والظلم الذي عشته ودفعت شبابي ضحية للأعراف العشائرية التي كانت وما تزال أقوى من القانون
إدانة حقوقية وعجز قانوني
رغم كل القوانين والتشريعات، لازال تزويج بالإكراه كدِية لوقف الاقتتال العشائري سار، وتُقدم المرأة كقربان لإنهاء العداوات بين القبائل والعشائر تحت اسم زواج الفصلية أو زواج الدية. وفيما تستمر الحملات الحقوقية داخل العراق وخارجه لوقف لهذا التزويج القسري بحق الفتيات وإنقاذهن من براثن أعراف العشيرة، يلعب ضعف الدول وغياب المؤسسات القانونية دوراً كبيراً في الاستقواء به واللجوء اليه لفض الخصام العشائري.
يذكر ان أن الدولة العراقية سنّت قوانين وتشريعات صارمة لتجريم الفصلية في أواسط القرن الماضي، وأصبحت الرقابة مشدَّدة على عرف الفصلية الذي بدأت تقلّ نسب تطبيقه بين العشائر، انما عادت للظهر بعد عام ٢٠٠٣ جراء تغييب القوانين وانتشار الجماعات المسلحة، ناهيك بتسييس القضاء الذي فقد فيه كثيرون الثقة به. وأدى تمكين العشائر كمكوِّن أساسي في النظام السياسي من جانب آخر الى احتكام العشائر للفصلية في فض نزاعاتهم. وفي عام 2015، في حادثة هزت الأوساط الحقوقية، في شمال البصرة، زُوّج نحو 40 امرأة قسراً لعشيرة أخرى، بهدف إنهاء نزاع مسلح في محافظة البصرة الجنوبية. وتلا ذلك الحدث عدة حوادث مماثلة، تم استعباد المرأة وفق أعراف العشائر.
ويشير الحقوقي كريم علي التميمي الى إن القانون العراقي اليوم أصبح عاجزاً عن وقف هذه الممارسات أو التدخل فيها في ظلّ الانفلات الأمني الذي تعيشه البلاد لتستغل العشائر العراقية ضعف الدولة “لابتزاز” حياة كثيرين والعمل على تقوية نفوذها على حساب حقوق المواطنين ولا يُعتبر زواج الفصلية المجرم قانونياً والذي عاد بقوة في السنوات الأخيرة، إلا مؤشراً إضافياً على ضعف الدولة في وقف هذه الممارسات العشائرية ضد النساء التي تجمع مؤسسات حقوقية وجهات رسمية على أنها مرفوضة اجتماعياً وحقوقياً إلى جانب تجريمها رسمياً وقانونياً.
في سياق متصل اعتبرت انتصار الميالي وهي إحدى الناشطات الحقوقيات العراقيات أن تسليم النساء ثمناً لإنهاء نزاع عشائري يُعَدّ جريمة يعاقب عليها القانون العراقي وفق المادة 9 من قانون الأحوال الشخصية مرقم 188 وتنصّ هذه المادة على معاقبة من يكرِه شخصاً، ذكراً كان أم أنثى، على الزواج بلا رضا منه، أو منعه من الزواج بالحبس لمدة لا تزيد على ثلاث سنوات أو بالغرامة إذا كان المكره أو المعارض أقارب من الدرجة الأولى. أما إذا كان المعارض أو المكره من غير الدرجة الأولى فتكون العقوبة السجن لمدة لا تزيد على عشر سنوات أو الحبس لمدة لا تقلّ عن ثلاث سنوات باعتبار أن عقد الزواج وقع بالإكراه لكن يبدو أن هذه المادة القانونية كُتبت لتحاكي مجتمعاً آخر، إذ لم تتمكن بالرغم من تشريعها في وقت مبكر من نشوء الدولة العراقية من إنقاذ العديد من الفتيات اللواتي وقعن ضحية الأعراف والتقاليد العشائرية، ولكن هذه القوانين أصبحت مجرد حبر على ورق بسبب الخوف من العشائر التي تنامت قوتها أمام ضعف الدولة وضعف الحكومات المتعاقبة.
ينتشر زواج التعويض في المناطق التي يغلب عليها الطابع العشائري في العراق، خاصة في ظل غياب القانون والتأخير في سَن تشريعات جديدة من شأنها انهاءه. ويُعد زواج التعويض بمثابة غرامة أو تعويض معيَّن، تُقِرُّه مجموعة تفاوض لحلّ النزاعات العشائرية والقبلية، وذلك من خلال تقديم المال أو فتاة كتعويض عن الدم المسفوك. وتتحول المرأة في مثل هذا الزواج الإكراه الى خادمة ولا يمكنها أن تعترض على أي شيء، بل تنفذ الأوامر وتلبي طلبات العائلة والعشيرة وكثيراً من الأحيان تنتهي حياة المرأة بالقتل بحجة الانتحار أو مزاعم أخرى.
وفي السياق ذاته، يقول الدكتور محمد احمد جميل وهو أستاذ في كلية العلوم الاجتماعية بجامعة بغداد، “يعد زواج الفصلية، من الموضوعات المهمة والخطيرة التي تهدد الحياة الزوجية والكيان الاجتماعي برمته، لما له من ابعاد واثار كارثية على الاسرة والمجتمع على حد سواء، فزواج الفصيلة فمن الناحية الشرعية فهو محرم ومن الناحية القانونية محرم ، ولازالت بعض العشائر تلتزم بهذا العرف على الرغم من انه من الأعراف البالية والتي اخذت بالانحسار مع تطور المجتمع وانفتاحه على الثقافات الاخرى ولاسيما ونحن بالقرن الواحد والعشرين حيث قلصت الثورة الكترونية مثل هذه الأحكام العشائرية الى حد كبير، واصبح هناك وعيا واضحا من أغلب العشائر بضرورة ترك هذا العرف واحترام المرأة واعطاءها مكانتها التي تستحقها”.
يذكر لايوجد اي نسب او احصائيات لهذه الظاهرة من قبل وزارة التخطيط او منظمات المجتمع المدني او وزارة العمل والشؤون الاجتماعية أو الشرطة المجتمعية، وذلك بسبب التكتم على هكذا حالات من قبل العشائر ومن قبل عوائل الضحايا. وفي الوقت الذي تطالب فيه النساء العراقيات بتفعيل قانون العنف الأسري، ينتشر زواج “الفصلية” في المجتمعات القبلية والمناطق الريفية، على الرغم من أن القانون العراقي يجرّم هذه الظاهرة.
هل هناك مساعي للحد من هذه الظاهرة؟
يسعى الكثير من الناشطين والحقوقيين لإيصال أصواتهم وتفاعلهم للحد من هكذا حالات راحت ضحيتها الكثير من النساء لان المرأة الريفية في العراق تعاني من الإهمال فضلا عن عودة الأعراف العشائرية التي جعلتها تدفع ثمن أخطاء الآخرين بغياب قوانين تحفظ لها حقوقها لان ظواهر الزواج تحت الإكراه جريمة يحاسب عليها القانون وذلك لفقدانه أهم ركن من أركان عقد الزواج والمتمثل بتوافق الإيجاب والقبول من كلا الطرفين والذي بدونه يصبح عقد الزواج باطلاً.
ولمعالجة هذه الظاهرة يجب على الحكومة العراقية مجلس النواب العراقي الإسراع بتشريع قانون العنف الأسري والتركيز على انهاء هكذا حالات. فضلاً عن تكثيف حملات التوعية والتثقيف، من قبل منظمات المجتمع المدني، وتركيز وسائل الإعلام على عرض قصص النساء، اللواتي أقدمن على الانتحار، جراء هذا الزواج بالإكراه.
انتاج:انترنيوز
Exit mobile version